قد يروي اثنان نفس الحدث، لكن كل واحد منهما يطرحه بشكل مختلف، وربما تكون الحكايات متضاربة أحياناً، هذا ليس كذباً ولا مبالغة، بل انعكاس للطريقة التي تعمل بها ذاكرتنا.
الذاكرة، بخلاف ما نتصور، إنها ليست جهاز تسجيل يحتفظ بالماضي كما هو، بل هي عملية مستمرة يعيد فيها العقل بناء الأحداث، ويتأثر خلال هذه العملية بالعاطفة، والزمن، والسياق الذي كان فيه ذلك الحدث.
باحثون من جامعة كولومبيا وجدوا في دراسة لهم أن المناطق المرتبطة بالعاطفة في الدماغ تنشط بوضوح أكبر عندما يتذكر الإنسان حدثاً مرتبطاً بتجربة شخصية، خاصة إذا كان الحدث له تأثير على الشخص. هذا يعني أن الأحداث التي لها صدى عاطفي أكبر يتم تخزينها واسترجاعها بطريقة مختلفة عن غيرها، ما يجعل تفسيرنا لها أكثر شخصنة وأقل دقة. ما يجعل شخصين عاشا نفس الموقف يملكان تفسيرات مختلفة، ليس لأن أحدهما يفتري أو يبالغ، بل لأن العقل يعيد ترتيب المشهد بناء على ما شعر به في تلك اللحظة.
في العلاقات الشخصية، من الشائع أن تتسبب هذه الذاكرة المتباينة في سوء فهم أو خلافات، خاصة عندما تتم إعادة الحديث عن حدث قديم. كل طرف يتحدث من منظوره، وكأنه متأكد أن روايته هي الحقيقة، بينما الآخر يشعر بالارتباك لأن ذاكرته تقول شيئاً مختلفاً تماماً. هذا الخلاف في التذكر لا يثبت من المخطئ، بل يثبت كيف أن الذاكرة نفسها مسألة شخصية أكثر مما نظن.
ومع مرور الزمن، تتغير بعض التفاصيل تلقائياً. يدخل العقل أحياناً عناصر جديدة لملء الفجوات، أو يلطف أحداثاً كانت صعبة، أو يضخم ويكبر أحداثاً كانت تافهة. كما أن الرواية التي نكررها لنفسنا تصبح بمرور الوقت أكثر ترسيخاً من الحدث الحقيقي، إلى أن نبدأ بتصديقها كما لو كانت الأصل.
حين نختلف مع أحدهم حول «ما حدث»، قد يكون من الحكمة أن نتوقف لحظة ونتذكر أن كلنا نرى جزءاً من الحقيقة، وأن الذاكرة ليست محكمة أو نهائية.
الذاكرة ليست مرآة للماضي، بل نافذة نطل منها عليه ويشكلها الضوء الذي نسلطه عليها، وبالتالي، نرى ما نراه كشكل يناسب ظروفنا، أكثر من كونه الشكل الحقيقي.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com
ذكريات متناقضة

ذكريات متناقضة
0 تعليق