«الخليج» تفتح نافذة على قصص إنسانية نابضة بالأمل، تجسد قيم الرحمة والتكافل في مجتمعنا، فنروي حكايات أولئك الذين يتعثرون في طريق الحياة، ثم يجدون أيادي العطاء تمتد إليهم، لتعيد إليهم معنى الانتماء، وليبقى الخير لغة مشتركة تجمعنا.
في عالم يختبئ خلفه الخوف والصمت، وجدت أم شابة نفسها مضطرة لمواجهة أعنف أنواع الألم، بعد أن تحوّل بيتها إلى ساحة للعنف والإساءة. حملت طفلتين بين ذراعيها، وقررت أن تقول «كفى» لتبدأ رحلة محفوفة بالتحديات، لكنها ملأى بالأمل والإصرار. كانت رحلتها من الظلام إلى النور، حيث تعلّمت أن القوة لا تعني غياب الخوف، بل النهوض رغم الجراح العميقة.
كانت ليلتها طويلة، أثقلها الخوف والخذلان. خرجت «ب» من منزل زوجها وهي تحتضن طفلتيها بكل ما تبقّى في قلبها من قوة. لم تأخذ معها سوى حقيبة صغيرة ودموع كبيرة تروي وجع سنوات من الإساءة التي طالتها وطالت صغيرتيها. كانت الكبرى، ذات الخمس سنوات والنصف، تلتصق بثوب أمها كمن يبحث عن مأوى من عاصفة، فيما الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة بالكاد تدرك ما يحدث، لكنها تشعر بأن شيئاً مؤلماً قد انكسر في عالمها الصغير.
حين وصلت «ب» إلى المؤسسة التي فتحت لها باب الأمان، لم تكن مجرد متعاملة تبحث عن مأوى، بل كانت روحاً تبحث عن بداية جديدة. استقبلها فريق متخصص، لم يكتفِ بتقديم سرير دافئ لها ولصغيرتيها، بل أحاطهنّ برعاية إنسانية شاملة امتدت إلى أدق تفاصيل حياتهنّ.
تقول شيخة سعيد المنصوري، المديرة العامة بالإنابة لمؤسسة دبي لرعاية النساء والأطفال: إن المؤسسة تولي أهمية قصوى لحماية الأطفال وضمان حقوقهم، إيماناً بأنهم أساس بناء مجتمع مستدام ومستقبل مشرق. والحماية والرعاية حجر الأساس لبناء مجتمع آمن ومستقر، لذلك نحرص على تقديم الدعم المباشر للضحايا، وتوعية المجتمع بجميع أشكال العنف.
التعافي الداخلي
بدأت رحلة التعافي من الداخل. جلسات الدعم النفسي والاجتماعي فتحت أمام «ب» نافذة على ذاتها المرهقة، والطفلتان بدأتا تستعيدان ضحكاتهما شيئاً فشيئاً. الكبرى التي كانت تخشى الكلام أمسكت أقلام الألوان من جديد، ورسمت أول زهرة بعد غياب، كأنها تعلن عودتها إلى الطفولة. ومع الوقت، تحوّل تراجعها الدراسي إلى تفوق، حتى أصبحت من المتميزات في صفها، بينما استعادت شقيقتها الصغرى هدوءها وطمأنينتها.
ولم تكتف المؤسسة بترميم الجراح العاطفية، بل امتدت يدها لتعيد بناء الحياة من جديد. ساعدت «ب» في إعداد سيرتها الذاتية وقدّمت لها التدريب اللازم لتبدأ أولى خطواتها نحو الاستقلال. حصلت على وظيفة في إحدى الجمعيات التعاونية، وبدأت تستعيد ثقتها بنفسها وشعورها بالقدرة على حماية ابنتيها وتأمين مستقبلهما.
ثم جاءت اللحظة التي انتظرتها طويلاً... حين سلّمتها المؤسسة مفتاح وحدتها السكنية الآمنة، واحتضنت والدتها القادمة لتساندها في رحلة الأمومة الجديدة. كانت تلك اللحظة ميلاداً جديداً لامرأة قررت أن تنهض، لا أن تنكسر.
واليوم، بعد أشهر من المتابعة والدعم، أصبحت «ب» نموذجاً للأم القوية التي واجهت العنف بالإصرار، والألم بالأمل، والضعف بالعمل. لم تعد تلك المرأة الخائفة التي خرجت ليلاً تحمل طفلتين ودموعاً، بل أصبحت قصة تُلهم كل من فقد الأمان يوماً، بأن النور يمكن أن يعود مهما طال الليل.


















0 تعليق