
هناك أشخاص لا يملؤون المكان، بل يمنحونه الحياة والمعنى… وجودهم لا يعلو صوتًا ولا يطلب انتباهًا، لكنهم مثل العمود الذي تستند عليه دون أن تلاحظه. فيمر حضورهم بهدوء، كأنهم جزء طبيعي من تفاصيل الحياة، إلى أن يغيبوا… فنكتشف أن كل شيء كان قائمًا عليهم.
هم الذين لا نتذكر شكرهم لأنهم لا يطلبون شكرًا، ولا نلحظ تعبهم لأنهم لا يشتكون. فيتصرفون كأنهم دائمًا بخير، بينما هم من يحملون الثقل عن الجميع بصمت. فنحن نتعامل معهم كأمرٍ مُسلَّم به، كالهواء الذي لا نراه لكنه يُبقي صدورنا تتنفس. وحين يختفون، يخنقنا الفراغ وتكتشف بعد غيابهم أن التفاصيل الصغيرة التي كنت تراها عادية كانت تحملك دون أن تدري.
فالطريقة التي يبدأ بها أحدهم يومك بابتسامة، أو السؤال البسيط عن احوالك أو حتى صمته في لحظة توترك… كلها كانت أركان طمأنينتك. فقد كانوا المدرسة التي تعلمك دون أن تشرح، والسند الذي لا يسقط وإن تعب.
والغريب أننا لا ندرك قيمة الثبات إلا حين يفقد توازنه. فلا نفهم معنى الطمأنينة إلا بعد أن تختفي. ونعيش متوهمين أن حضورهم دائم، وأنهم سيظلون هناك مهما حدث، ثم يأتي الغياب ليعلمك أن الأمان لم يكن في الأشياء، بل في الأشخاص الذين منحونا إياها.
فهؤلاء لا يعوضون، لأنهم لم يكونوا مجرد أفراد في حياتنا، بل كانوا المساحة التي جعلتنا قادرين على أن نكون نحن. ووجودهم كان ترتيبًا داخليًا لتعثّرنا، وتوازنًا لزحام الأيام. فمعهم كنا نواجه الحياة بثقة، دون أن نفكر في السبب.
وما أقسى أن تدرك بعد فوات الأوان أنك كنت تتكئ على أحدهم أكثر مما تظن، وتتأكد أن حضورهم لم يكن عاديًا، بل كان المعنى نفسه. وحين تغيب هذه القلوب، لا يغيب فقط من نحب، بل يغيب الجزء الذي كنا نرتاح إليه داخلنا.
ومع مرور الوقت، تدرك أن الفراغ الذي خلّفه الغياب ليس مجرد مساحة خالية، بل صدى لحضورٍ كان يملأ الحياة دون ضجيج. فليس في غيابهم فراغ يمكن ملؤه، لأن الأثر الحقيقي لا يُبدَّل. وربما هذه هي الحقيقة التي نتعلمها متأخرين دائمًا وهو أن بعض الناس لا يرحلون، بل يتحولون إلى ذاكرة تسندنا حين لا نجد أحدًا.
الكاتب / طارق محمود نواب
الخميس 25 ديسمبر 2025م
للاطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )













0 تعليق