عنب بلدي – خاص
منذ اليوم التالي لسقوط النظام السابق، دخلت السجون والمحاكم في سوريا مرحلة انتقالية اتسمت بارتباك واضح في إدارة الملفات القضائية، وتداخل الصلاحيات بين الجهات الأمنية والقضائية.
وبينما أعلنت الحكومة الانتقالية نيتها إعادة هيكلة المؤسسات العدلية والجهاز القضائي برمته، بقيت مراكز الاحتجاز تعمل وفق الإجراءات القديمة نفسها، مع استمرار التوقيف دون مذكرات قضائية وتأخر الإحالات إلى النيابة العامة.
وانعكس هذا الاضطراب مباشرة على عمل المحامين، الذين وجدوا أنفسهم أمام جهات قضائية وأمنية وشرطية لا تزال تفرض قيودًا على الزيارة والحضور والوكالة، رغم التغييرات السياسية الحاصلة في البلاد، وفي الوقت الذي بدأت فيه بعض المحاكم بالعودة إلى العمل، بقيت ملفات كثيرة معلّقة، خاصة تلك المرتبطة بالتهريب والانتهاكات من قبل النظام السابق، وسط غياب آليات واضحة لمعالجة الاعترافات القديمة أو مراجعة القرارات الصادرة قبل التغيير السياسي، وفقًا للتصريحات التي حصلت عليها عنب بلدي.
عنب بلدي تسلط الضوء في هذا التقرير على عمل دوائر التوقيف والمخافر الشرطية والإجراءات المتبعة في التعامل مع المحامين وذوي الموقوفين، ومدى تطبيق قانونَي أصول المحاكمات الجزائية والمدنية على أرض الواقع، وحاولت مرارًا الحصول من وزارة العدل على أجوبة عن التساؤلات والشكاوى التي عُرضت عليها، ولكن الوزارة امتنعت عن الإجابة حتى تاريخ نشر التقرير.
وزير العدل يناقش واقع العدليات والعمل القضائي
بمراجعة تصريحات مسؤولي وزارة العدل السورية، يتضح أن هناك اعترافًا من قبل الوزارة بوجود تراكم كبير في القضايا وبطء في الإجراءات القضائية، إلى جانب الحديث الرسمي عن تحسين الخدمات القضائية، لكن دون وجود تفاصيل حول معالجة الاعتقال التعسفي أو منع المحامين من الوصول للموكلين.
بينما ركزت تعميمات الوزارة بعد سقوط النظام على إعادة ضبط السجون أكثر من التركيز على حقوق الدفاع أو ضمانات التوقيف.
في تموز الماضي، وضمن اجتماع موسع مع المحامين العامين ورؤساء العدليات، صرح وزير العدل السوري، مظهر الويس، بالآتي:
- المنظومة القضائية تعمل في جميع المحافظات رغم الصعوبات.
- هناك تحسن في الخدمات القضائية المقدمة للمواطنين.
- حصل “تغيير واضح في ديناميكية العمل والإحساس بالمسؤولية”.
هذه التصريحات جاءت خلال اجتماع رسمي في مبنى الوزارة بدمشق، وفقًا لما أوردته وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، في تموز الماضي، وتركزت مداخلات الحضور على تسريع وتيرة العمل القضائي ومعالجة “تراكم القضايا”.
وزير العدل السوري مظهر الويس يجتمع مع رؤساء العدليات والمحامين العامين – 17 تشرين الثاني 2025 (وزارة العدل السورية/تلجرام)
المحامي ممنوع من الحضور والوكالة والزيارة
المحامي “ع. ز.”، فضل عدم نشر اسمه الصريح، أشار في حديث لعنب بلدي إلى أن المحامي لا يُسمح له بحضور التحقيق في الفروع الأمنية حتى يتم تحويل الموقوف إلى المحكمة، كما يُمنع من الحصول على وكالة من الموقوف إذا كان محتجزًا في الفروع، إلا بإذن من النائب العام، كذلك، يُمنع المحامي من زيارة موكله في هذه الفروع.
وهناك موقوفون لا يعلمون سبب توقيفهم، بحسب المحامي، وقد تطول مدة التوقيف إلى ثلاثة أشهر، بين التحقيق والتوسع فيه، دون وجود وضوح في الإجراءات أو تحديد مصيرهم القانوني.
وأوضح أن المحامي يُمنع أيضًا من رؤية الموقوف في “نظارات” أقسام الشرطة بدمشق وريفها، أو حتى الاطلاع على الضبط، كما لا يُسمح له بالحصول على وكالة منه للدفاع عنه، ويتم الطلب من المحامين مغادرة قسم الشرطة، بل وأحيانًا يُمنع من الدخول من الباب الخارجي للقسم.
المحامي في دائرة التهميش
المحامي “ع. ز.” نوه إلى أن قسم الشرطة يرفض إعطاء أي معلومة للمحامي، وهناك حالة من عدم الشفافية والتعتيم على التوقيفات، ما يعوق عمل الدفاع ويضعف الضمانات القانونية للموقوفين.
وأكد أن من الصعب مراجعة أو مقابلة المحامي العام في القصر العدلي بدمشق، نتيجة وجود ضغط “كبير جدًا” على مكتبه وكثرة المراجعين الشخصيين، ما يجعل الوصول إليه شبه مستحيل في بعض الأحيان.
ويرى المحامي أن هذا الأمر بحاجة إلى تنظيم ومعالجة، لأن عمل المحامي العام يرتبط مباشرة بدوائر التوقيف والسجون، ودور المحامي مهمّش في القصر العدلي ودوائر النيابة العامة، ويجب إعطاؤه الأولوية حتى يتسنى له الدفاع عن حقوق موكله.
“الفلول” خارج التمثيل القانوني
كشف المحامي “م. أ.”، فضل عدم نشر اسمه الصريح، أن المحامين لا يمكنهم الوصول للحصول على وكالة من جميع الموقوفين الذين يُطلق عليهم اسم “الفلول” في سجون فروع الشرطة العسكرية والأمن السياسي، ويُمنع المحامي من الحصول على ضبط التحقيق، أو إذن توكيل، أو متابعة شؤون الموقوف، أو حتى السؤال عنه، حتى لو كان لديه وكالة من ذوي الموقوف.
وتساءل: ما مصير هؤلاء الموقوفين؟ وكيف سيتم البت بأمرهم؟ ومتى سيُحالون إلى القضاء المختص؟ وما مدد التوقيف المسموح بها لهم؟ وعلى أي أساس قانوني تجري عملية التوقيف والتحقيق والمحاكمة؟
كفالات مالية غامضة
تساءلت المحامية “إ. ح.”، فضلت هي الأخرى عدم نشر اسمها الصريح، عن مصير الكفالات المالية التي يتم دفعها من قبل الموقوفين لإخلاء السبيل (تحت المحاكمة) من مراكز التوقيف التابعة للشرطة العسكرية، ولمصلحة مَن يتم جبايتها، وأين يتم إيداع هذه الأموال (وأغلبيتها بالدولار).
كما تساءلت عن المستند القانوني الذي تم تقاضي الكفالة بموجبه، ولماذا لا يتم دفعها في البنك المركزي أو فروعه، ما يثير تساؤلات حول الشفافية والرقابة على هذه الأموال.
لا محاكمات في قضايا التهريب والغرامات مباشرة
أحد المحامين المختصين بالقضايا الجمركية، رفض نشر اسمه، تحدث لعنب بلدي عن هموم التقاضي بالنسبة لمرتكبي جريمة التهريب، وقال إن المحاكم الجمركية فقط تنظر بالقضايا القديمة قبل سقوط النظام، ولم يتم النظر منذ بداية العام الحالي حتى تاريخه بأي من قضايا التهريب الجديدة.
وأوضح أن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية لم تقم حتى تاريخه بتحويل أي قضية نهائيًا إلى المحكمة الجمركية، بل تقوم عند ضبط قضية تهريب بتنظيم ضبط بالقضية الجمركية بحق الشخص المخالف دون تحويل القضية إلى المحكمة، وإما أن يتم إلزام الشخص بدفع الغرامة ثم يُترك بعد الدفع، أو يبقى موقوفًا.
وأشار إلى أن هناك الكثير من الأشخاص المدّعى عليهم بقضايا تهريب لا علاقة لهم بعملية التهريب، ومن حقهم الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء المختص بالنظر بهذه القضايا، ولا يحق لأحد إلزامهم بدفع غرامة مفروضة عليهم دون أن يُسمح لهم بسلوك الطرق القانونية التي من شأنها إعادة الحقوق لهم.
وبقرار من وزارة العدل السورية تم ضم محكمة الاستئناف الجمركية والبداية الجمركية إلى الاستئناف والبداية المدنية، ليصار قبل أيام إلى اتخاذ قرار بدمج المحاكم الجمركية ومحاكم الاستئناف الجمركي ودوائر التنفيذ الجمركي في سائر المحافظات مع المحاكم مثيلتها في عدلية دمشق، واستندت الوزارة في قرارها هذا إلى أحكام قانون السلطة القضائية، بحسب ما ذكرته في نص القرار.
وأضاف المحامي ذاته، أن هذا القرار أدى إلى تغيير في مسار القضايا الجمركية، علمًا أنه يتم تحويل جزء من الموقوفين في قضايا التهريب إلى المحكمة الجزائية وقاضي التحقيق، وليس إلى المحكمة الجمركية.
أوضح المحامي المختص بالقضايا الجمركية، أن القضايا القديمة المنظمة بشأن البضائع الناجية من الحجز، سواء كانت تتعلق بالسلاح أو المخدرات أو تضم طرفًا عسكريًا، يتم الاستناد فيها إلى اعترافات أمنية قديمة، وتُجرى المحاكمة على أساسها، ما يثير تساؤلات حول عدالة الإجراءات، وكيف يتم الاستناد إلى اعترافات انتزعت من المواطنين تحت التعذيب في فروع أجهزة أمن النظام والأمن الجنائي سابقًا، وكيف يكون منظمو الضبوط السابقون من محققين وجلادين ومتورطين بسفك دماء السوريين خصمًا وحكمًا في الوقت ذاته.
وفيما يتعلق بالقرارات القطعية بالتغريم، يتم الإعفاء من الغرامات دون إسقاط الحق في دائرة التنفيذ، بحسب المحامي، ما يطرح تساؤلًا قانونيًا: ما الضمانات مستقبلًا لعدم إعادة تغريم الشخص على القضية ذاتها، علمًا أنه لم يتم إسقاط الحق قضائيًا؟
مزاجية في التفتيش وتأخر في رفع الحجز
أشار أحد المحامين الآخرين (تحفظ على نشر اسمه لأسباب إدارية) إلى أن هيئة المنافذ البرية والبحرية تتعامل بمزاجية في تفتيش المحامين، حسب العنصر المناوب، في حين أن باب القضاء العسكري لا يشهد مثل هذه الممارسات، ويتم التعامل مع المحامين فيه بكل لباقة واحترام.
كما أشار إلى التأخر في تعميم قرارات رفع الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة، على منظومة الحجز لأكثر من شهرين أو ثلاثة، حيث يتم تحديد موعد رفع الحجز بتاريخ لاحق، مثلًا من 16 تشرين الأول إلى 1 كانون الأول، ما يسبب أضرارًا كبيرة للمواطنين.
وأكد أن التوقيف في قضايا الجمارك يمنع المحامين من الحصول على وكالة من الموقوف، ما يضيف عائقًا جديدًا أمام ممارسة حق الدفاع عنه.
توقيف بلا مذكّرة
“اعتقل شقيقي منذ نحو عام، دون وجود مذكرة توقيف قضائية، ودون إحالته إلى القضاء حتى تاريخه، وبحسب إفادات الجهات المعنية، ما زال قيد التحقيق منذ لحظة اعتقاله، بحسب ما قالته “شيرين عادل” لعنب بلدي، وهو اسم وهمي، مفضّلة عدم نشر اسمها الصريح لأسباب أمنية.
وقالت ابنة مدينة النبك بريف دمشق، إن الأشهر الستة الأولى من الاعتقال مرّت دون أي توضيح رسمي حول سبب التوقيف، قبل أن يُبلّغ ذوو المعتقل لاحقًا من أحد مسؤولي المنطقة بوجود “ادعاء شخصي”، يتم التحقق منه.
إلا أن الجهة المدعية لم تُكشف للأسرة، بذريعة الخوف من تعرّض المدّعي للضغط أو الإكراه لتغيير ادعائه، وفق ما أُبلغت به شقيقة المعتقل.
وأضافت أن النائب العام في محكمة ريف دمشق (حسب التسمية آنذاك) أكد لها في الأشهر الأولى من الاعتقال بأن أي قضية لا تتضمن “تورطًا بالدم” لا يستمر فيها التوقيف لأكثر من ثلاثة أشهر، غير أن هذا التصريح لم يُترجم إلى إجراء قانوني فعلي، إذ استمر احتجاز حرية شقيقها لنحو السنة دون إحالة قضائية، بحسب تعبيرها.
كما تؤكد السيدة أنه لم يُسمح لها أو لعائلتها بتوكيل محامٍ لشقيقها، إذ رفض كل من مدير المجمع الأمني في النبك، ومسؤول السجن، ومسؤول المنطقة، هذا الطلب بحجة أن المعتقل “ما زال قيد التحقيق”، وأن حق التوكيل لا يُمنح إلا بعد تحويل الملف إلى القضاء، وهو ما لم يتم حتى الآن.
“أخي المعتقل تعرض لضرب مبرح وتعذيب جسدي في بدايات اعتقاله، بهدف انتزاع اعترافات منه”، أضافت “شيرين”، معتبرة ذلك “انتهاكًا صارخًا للدستور والقوانين النافذة والمواثيق الدولية التي تحظر التعذيب وتكفل الحق في المحاكمة العادلة”.
وطالبت، من خلال عنب بلدي، بتوجيه دعوة صريحة إلى كل من وزارتي العدل والداخلية لتفعيل التنسيق بين الجهتين، وضمان حق جميع المعتقلين في توكيل محامٍ منذ لحظة التوقيف، والإسراع في إحالة جميع الملفات إلى القضاء المختص دون تأخير، والتأكيد على أن أي اعتقال يجب أن يستند إلى مذكرة توقيف قضائية واضحة لا إلى إجراءات تعسفية.
“الشبكة السورية”: الانتهاكات ناتجة عن عجز المؤسسات
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، قال إن غياب أي إجراء قانوني، مثل التبليغ، أو تحديد هدف ومدة الاعتقال، أو السماح بالتواصل مع محامٍ، يجعل الاعتقال تعسفيًا، حتى وإن غاب شرط واحد فقط من هذه الشروط، وفي كثير من الأحيان تغيب أكثر من خطوة.
وأكد أن الاعتقال يجب أن يتم بموجب مذكرة قانونية، وأن تكون التحقيقات من اختصاص الشرطة، وهو ما لا يحدث في عدد كبير من الحالات.
“الشبكة تصنّف جميع هذه الحالات على أنها اعتقالات تعسفية”، بحسب تعبيره، موضحًا أن أي اعتقال يجب أن يمر بإجراءات قانونية واضحة، وهو ما لا يتحقق في الحالات المذكورة وفقًا للقانون.
وأشار إلى أن “الشبكة” تصدر تقريرًا شهريًا عن حصيلة الاعتقالات التعسفية في الثاني من كل شهر، وتُدرج هذه الحالات جميعها ضمن هذا التصنيف.
لكنه لفت إلى واقع تعاني فيه المؤسسات من ضعف في البناء والقدرات، إذ لا يوجد عدد كافٍ من عناصر الشرطة لإجراء التحقيقات، ولا عدد كافٍ من موظفي النيابة العامة لإصدار المذكرات اللازمة، ما يؤدي إلى أخطاء وانتهاكات.
ويرى أن جزءًا من هذه الانتهاكات ناتج عن عجز مؤسسات الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها، مؤكدًا في الوقت نفسه أن هذا لا يغيّر من حقيقة أن هذه الاعتقالات تبقى اعتقالات تعسفية.
وأشار إلى أن الإشكالية تبرز بشكل خاص في حالات توقيف المتورطين بانتهاكات من عناصر الأمن والجيش التابعين للنظام السابق، حيث تجد السلطات نفسها بين خيارين:
- تركهم طلقاء داخل المجتمع.
- احتجازهم احتياطيًا دون استكمال ملفات قانونية مكتملة.
واعتبر أن هذا الخيار يقع بين “السيئ والأسوأ”، من دون أن يشكل ذلك تبريرًا.
وأكد أن الحكومة قادرة على القيام بإجراءات أفضل رغم التحديات، خاصة بعد تشكيلها في نهاية آذار الماضي، رغم ما رافق ذلك من محاولات إزالة القضاة والمحامين والموظفين الفاسدين أو غير الفاعلين، وما نتج عنه من صعوبات إضافية.
وفيما يخص حقوق الدفاع، شدد عبد الغني على أن من حق المحامين التواصل مع موكليهم والوصول إليهم، والسماح بالاتصال الهاتفي داخل السجون، وزيارات المحامين، ومتابعة الملفات والترافع عنها، معتبرًا أن هذه إجراءات أساسية ويمكن تنفيذها رغم التحديات.
سوريا في المرحلة الانتقالية بحاجة إلى تحسين صورة وزارتي الداخلية والعدل في نظر السوريين، وترميم العلاقة مع هذه المؤسسات، باعتبار ذلك جزءًا أساسيًا من المرحلة الانتقالية، أضاف عبد الغني.
ويرى أن الالتزام بإجراءات ومعايير قانونية من شأنه تحسين هذه العلاقة، محذرًا من أن غيابها سيبقي العلاقة متوترة، خاصة في ظل الإرث الثقيل الذي تحمله الوزارتان من عهد نظام الأسد.
مطالب حقوقية
دعا مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وزارتي العدل والداخلية إلى:
- إنهاء سياسة الاعتقال دون تقديم أوامر قضائية، وضمان مثول المعتقلين أمام المحاكم خلال فترة زمنية قصيرة بعد القبض عليهم.
- ضمان حماية حقوق المعتقلين في الحصول على تمثيل قانوني مستقل ومحاكمات عادلة.
- إنشاء آلية لمراقبة حقوق الإنسان لضمان عدم تحول عمليات المساءلة إلى أداة لتبرير الاعتقال التعسفي.

















0 تعليق